الأربعاء، 27 يناير 2016

أفريقيا الوسطى عندما ألبسوها ثوباً دينياً 


في ليلة من ليالي الشتاء البارده في العاصمة الأفريقية ( بريتوريا ) كان لي شرف حضور ندوة بعنوان (مستقبل أفريقيا جنوب الصحراء) وإلتقيت بالصدفة بالسيد "إداورد مالوكا" مستشار وزيرة العلاقات الدولية والتعاون في جمهورية جنوب أفريقيا الذي ما أن عرفته بنفسي وأطلعته على سبب وجودي في أفريقيا لما يقارب الثماني سنوات كباحثة خليجية في الشأن الأفريقي حتى إبتسم راضياً ومستمتعاً بحديثي فإنتهزت تلك الفرصة التي قد لا تتكرر لي مرة أخرى فسألته قائلة  " سيدي الكريم في ثلاثينيات القرن الماضي كانت المكسيك مملكة يحكمها الملك إداورد فرجاس وكانت تعج بحرب أهليه مُفجعه فتوجه مجموعة من وجهاء المملكة إلى الملك فسألوه يا جلالة الملك ما مشكلة المكسيك الأساسية ؟ فقال لهم الملك مشكلة المكسيك الأساسية هي قربها بحدودها مع الولايات المتحدة الأمريكية وبُعدها بروحها عن الله ( إنتهى حديث الملك) ، واليوم أنا أسألك يا سيد مالوكا ما مشكلة أفريقيا الأساسية ؟ فكانت إجابته " مشكلة أفريقيا الأساسية إنها لم تتخلص من الإستعمار". (إنتهى حديث السيد مالوكا).
لم أكن أدرك حينها حقيقة ما قاله لي السيد مالوكا إلا بعد زيارتي لجمهورية أفريقيا الوسطى في ربيع عام 2013 بعد هدوء نسبي خيم على العاصمة بانغي وضواحيها بعد التوترات العرقية التي راح ضحيتها أكثر من أربعمائة شخص وحرق للمساجد والكنائس، وجدت أفريقيا الوسطى قد عُريت من لبساها التقليدي الذي يتسم بالتسامح وأُلبست عمداً ثوباً دينياً لتغطية حقيقة الصراع الذي يدار فيها ، وجدت مواطن أفريقيا الوسطى بل أغلب الأفارقة خاضعون لمواطنه لم يختاروها وغير مقتنعين لقيمتها فيحصل الناس على جنسيتهم السياسية عن طريق إنتماء وراثي لم يختاروه ولم يختبروه ، ويترنح عامة الأفارقة بين بنية فوقية ( بقايا الدولة الإستعمارية) وماضي أفريقي تقليدي متداعٍ فتبعثرت ولاءاتهم بين نخب سياسية وأنساق قبلية مُنهاره بينما توجهت كثرة منهم نحو بوتقة الإنصهار بالمدن المُتسعه بحثاً عن نصيبهم الوهمي من الإستقلال.
بدأت تتبلور مشكلة الصراع في أفريقيا الوسطى عندما أراد الرئيس الأسبق ( فرانسو بوزيزي)  الوصول للسلطة وإستخدم جزء من الجنود المسلمين الذين كانوا يتعرضون لضغوط كبيره في فترة حكم الرئيس ( إنج فيليكس باسيه) وأطلق عليهم إسم ( اللبراتير) أي المحررون ، ووعدهم بتسوية أوضاعهم إلا أن الرئيس بوزيزي تنصل من تلك الوعود وعمل على التخلص منهم واحداً تلو الأخر مما جعل من تبقى منهم  يتجمعون في تحالف مناهض لحكم بوزيزي أطلق عليه إسم ( السليكا ) ، في ذلك الوقت أعلنت الشركة الفرنسية (أريفا AREVA الفرنسية / أكبر شركة نووية في العالم وثاني منتج لليورانيوم في العالم)  في افريقيا الوسطى أن البورصة العالمية لليورانيوم إنخفضت وبالتالي ستقوم باريس بتجميد العمل في مناجم اليورانيوم  حتى عام 2032 للحفاظ على الأسعار والتحكم في السوق الدولي ، مما جعل الرئيس فرانسو بوزيزي يلجأ للتعاقد مع شركات أجنبية أخرى لإستخراج اليورانيوم وهذا ما إعتبرته باريس تهديد لوجودها في مستعمرتها السابقه فما كان منها إلا دعم جماعة السليكا التي نجحت في الإنقلاب على الرئيس بوزيزي ووصلت إلى السلطة برئاسة أول رئيس مسلم لجمهورية أفريقيا الوسطى ميشيل ديوتوديا ، ولكن سرعان ما تكشف لجماعة السليكا أن باريس إستخدمتهم لدور محدد هو إسقاط بوزيزي فقط وتعمل الأن على التخلص منهم بعد قيامها بتسليح جماعة ( الأنتي بالاكا ) المسيحية ، وبدأت ألة الإعلام الفرنسية والأوروبية تعمل على تصوير مغالطة صدقها العالم مفادها أن جماعة السليكا " المُسلمه" تمارس الإرهاب والعنف ضد جماعة " الأنتي بالاكا" المسيحية ، والحقيقة أن باريس قامت بنزع أسلحة جماعة ( السليكا) والتعاون مع "الأنتي بالاكا " في إبادة المسلمين الذين أصبحوا فريسة سهلة بعد نزع أسلحتهم، كما أن جماعة "الأنتي بالاكا" تم تأسيسها قبل نشأة جماعة السليكا بوقت طويل مما يدحض الحجة الفرنسية التي كانت تروج أن "الأنتي بالاكا" نشأت للدفاع عن نفسها ضد الإرهاب ، أضف إلى ذلك أن جماعة السليكا تضم في صفوفها 30% من المسيحيين على عكس ما كان يصور أنها جماعه إسلامية خالصة ، أضف إلى ذلك أن جريدة ليموند الفرنسيه في عددها الصادر بتاريخ 10/12/2013 أكدت أنه قبل الصراع الدامي في أفريقيا الوسطى بيوم واحد أي في الرابع من ديسمبر عام2013 وصلت إلى العاصمة بانغي طائرة فرنسيه تحمل على متنها مجموعة من الصحفيين الفرنسيين والأجانب لدرجة أن الفنادق في العاصمة بانغي لم يكن لديها غرفة شاغرة بعد أن شهدت إستقبال ذاك الكم الهائل من الصحفيين والمصورين ، في دلاله واضحة على علم السلطات الفرنسية بما سيحدث في اليوم التالي، والغريب أن الصحف العالمية كانت في ذلك الوقت تخرج بإحصائيات تؤكد أن نسبة المسلمين في أفريقيا الوسطى 15%  ونسبة المسيحين 45% ونسبة الديانات الأخرى 23% كذا ولكن الحقيقة التي عرفتها في وقت لاحق ويعرفها كل مواطن في أفريقيا الوسطى منذ أمد بعيد أنه لم تجرى أي عملية إحصائية للسكان في أفريقيا الوسطى منذ أكثر من عشرين عاماً
من الأشياء التي لا أنساها في رحلتي إلى أفريقيا الوسطى إنني قصدت منطقة  على مقربة من العاصمة بانغي تسمى ( بامباري )  تم تحويل بعض قراها لشبه معسكرات للفارين من الموت ووجدت المعسكر عبارة عن غرف كبيره أسقفها خشبيه وأرضيتها ترابية ويتكدس فيها مجموعة من الأطفال والنساء والشيوخ ، وما إن دخلت عليهم حتى بدأ الأطفال يلتفون حولي بمرح ويقولون لي بلغة أفريقية خالصة "نحن نمتلك في هذا المكان حلوى كثيرة ولكن تنقصنا أحذية"، لم أستطع إجابتهم فقد لخص لي الأطفال من غير أن يقصدوا قصة أفريقيا منذ القدم .
تركتني أفريقيا الوسطى بعد أن ألبسوها رغماً عنها ثوباً دينياً حائرة خائفة منها وعليها ، وتركتها وهي في وضع إخلاءها من المسلمين وبطريقة ممنهجه ومن لم يخرج سيقتل ، وقد نشهد قريباً إنفصالاً في أفريقيا الوسطى وولادة جمهورية أفريقيا الوسطى الشمالية ( منطقة المسلمين ) وجمهورية أفريقيا الوسطى الجنوبية ( منطقة المسيحيين) ، فكل السيناريوهات مطروحة في تلك  القارة المحظوظه قدراً والمظلومة إقتداراً.

تم نشر المقال في جريدة الخليج الاماراتية على الرابط التالي:



تم نشر المقال في جريدة اخبار المدينة الصادرة في تورنتو ( كندا) على الرابط التالي:



أمــــينـــة الــعريـــــــــمي
بـــــاحثة إمــــاراتــــية فـــي الــــشأن الأفـــريــقـــي

Afrogulfrelations_21@outlook.com


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق