الأحد، 24 يناير 2016


"أفريقيا بين الطموح التنموي والسياسات الكلاسيكية"



عندما أتحدث عن الشؤون الافريقية أُفُضل دائماً الخوض في تاريخها القديم وممالكها العريقه وثقافة شعوبها وجغرافيتها السياسية ، وأتعمد الإبتعاد عن مناقشة أسباب تراجع تلك الدول المحظوظه قدراً والمظلومة إقتداراً ، ولكني اليوم ولأول مره سأقترب من جرح أفريقيا النازف لعلي أدرك خبايا أفريقيا كما هي ومن غير تزوير.
أخطأت الدول الأفريقية عندما وضعت مستويات المعيشة الغربية كهدف تصبو إليه وتريد تحقيقه وهذا الطموح تسبب في سوء تخصيص المواد المتاحة للدول الافريقية وبالتالي لم تحقق الأهداف الطموحة ، فدفعت أغلب دول أفريقيا إما نحو الإستسلام والرضا بمجهودات محدودة في مضمار التنمية وإما أن تستمر وتضاعف طموحها و قد تنجح في حل مشاكلها واللحاق بركب الدول المتقدمة وقد تفشل فتزداد درجة تخلفها وبعدها عن الدول المتقدمة، ونتيجة لإبطاء الدول الأفريقية النامية في مجال التنمية تحملت عبء الزيادة السكانية مما تسبب في البطالة وتردي الأحوال المعيشية وإنتشار الجهل والمرض والجوع ، وما كان لأفريقيا أن تقع في هذا المأزق لو لم تتأخر في التنمية الاقتصادية وبالصورة العملية والعلمية لإستثمار ماهو متاح من إمكانات داخلية وخارجية ، إلا أن العكس يحدث فتصبح دولاً إستهلاكية وذات مديونية كبيرة وهذه أهم عقبه تعاني منها الدول الافريقية وتقف عائقاً أمام التنمية في أفريقيا ، ومشكلة المديونية هي مشكلة سياسية بإمتياز وهذا نفهمه وندرك ملامحه عندما نفهم العلاقة "  المؤسفه  " بين الدول الأفريقية والمؤسسات الإقتصادية العالمية ( البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ).
من أخطاء السياسات التنموية الافريقية هو إعتمادها على الإستدانة والتمويل لبرامج التنمية المختلفة دون مراعاة لإمكانية تسديدها ، ومن المعروف أن ألية عمل النظام المالي الدولي الذي تديره وتشرف عليه المؤسسات المالية الدولية يقود المدين إلى مزيد من الإستدانة ومن ثم الرضوخ لشروط الدائنين ، وهذا ما تم تطبيقه في أفريقيا ووقعت أفريقيا في فخ المديونية ووافقت على شروط المؤسسات المالية الدولية وقبلت سياستها المعروفه بـــ ( الإصلاح الإقتصادي )، ولابد هنا من الإشارة إلى أن مفهوم المديونية الأفريقية ليس واحداً بل تختلف دلالتها من بلد أفريقي لأخر ولابد من التمييز هنا بين المديونية الهيكلية والمديونية العائدة إلى نقص السيولة، فالمديونية الهيكلية تنطيق على الدول الافريقية ذات الموارد القليلة التي يُشكك في قدرتها على الخروج من فخ المديونية وذلك من خلال الإستمرار في نهجها التنموي السابق ، أما المديونية العائدة إلى نقص السيولة فتشمل جميع الدول ذات الموارد المتعددة وتلك المديونية ناجمة عادة عن الحروب الأهلية والإفراط في الإستهلاك الأمني ، وتنقسم المديونية الأفريقية إلى داخلية وخارجية ، فالداخلية تشمل جميع الإلتزامات المالية التي في ذمة الدولة والهيئات والمؤسسات العامة تجاه الإقتصاد الوطني ، أما المديونية الخارجية تشمل الإلتزامات المالية التي في ذمة الدولة ككل تجاه الخارج والتي تكفلها الدولة .
أما الأسباب التي ساهمت في نمو تفاقم المديونية الأفريقية أهمها : تمويل عوامل التنمية عن طريق الإستدانة من الخارج وخصوصاً إستيراد التكنولوجيات المتقدمة ، والخلل في السياسات الإستثمارية المتبعه ، وسوء إدارة الإستثمارات الممولة عن طريق القروض الخارجية فبدلاً من التركيزعلى تنمية قوى الإنتاج المحلية والتصنيع وتصدير السلع الجاهزه كما فعلت الدول المتقدمة لجأت الدول الأفريقية إلى إستيراد السلع الرأسمالية الجاهزه بأسعار عالية وتصدير المواد الخام بأسعار منخفضة وهذا النوع من التخصص الإنتاجي أبقى الدول الأفريقية في مهب الأزمات الإقتصادية الدولية ، أضف إلى ذلك فساد الأجهزة الحكومية ونمو ظاهرة الإستهلاك الترفي الذي شجع كثيراً على نهب الإقتصاديات الوطنية بما في ذلك نهب القروض الخارجية وتهريبها للخارج .
أما عن السياسة الإقتصادية لصندوق النقد الدولي ودوره في جدولة الديون الأفريقية من خلال نادي باريس فإن ما يجري إدعاؤه من تحويل صندوق النقد الدولي إلى مؤسسة ديموقراطية هو في الحقيقة طريقة لضمان أن يستمر غالبية فقراء العالم بلا كلمة مسموعه وبترتيبات غربية تسمح للدول الثرية بالحديث نيابة عن الدول الفقيرة ، وتظهر ورقة مسربة الى منظمة تدعى مشروع (بريتون ودوز) تقول تلك الورقة أن صندوق النقد الدولي ينوي أن يدمقرط على الأقل بمضاعفة الصوت الأساس وعندئذ سيكون ثمانون بلداً من البلدان الأكثر فقراً في العالم قادرة على حيازة نسبة 0,9% مقسومة بينها وحتى هذا التنازل المثير للشفقة لم يحدث إلا بعد أن أقدم الأعضاء الأفارقة على مخاطرة سياسية بأن عارضوا علناً عروض الصندوق.
صندوق النقد الدولي يضع قيوداً صارمة على قروض الدول الأفريقية النامية مثل تخفيض العملة الوطنية والحد من الإستيراد ، ورفع سعر الفائدة المحلي لتشجيع الإدخار، والحد من التضخم المالي ، وتحرير التعامل في الصرف الأجنبي وزياد الضرائب على السلع والمداخيل ، وتجميد الأجور، ورفع الرقابة على الأسعار ، والحد من الإنفاق الحكومي عن طريق إلغاء الإعانات للمستهلكين، وهذه السياسات الكلاسيكية أصبحت عنواناً تضعه المؤسسات المالية الدولية على كل طلب يقدم من أي دولة نامية أياً كانت أوضاعها الإقتصادية والسياسية والإجتماعية ، ومن الجدير بالذكر أن نصائح أو بالأصح القيود التي يفرضها صندوق النقد الدولي للدول الافريقية يؤكد أنها ستحقق زيادة في الصادرات وبالتالي زيادة موارد الدولة من النقد الأجنبي وخفضاً في الواردات إلا أن الحقيقة هي عكس ذلك تماماً فمثلاً بالنسبة لميزان المدفوعات فأن الهدف من تخفيض العملة هو زيادة الصادرات وخفض الواردات وكلاهما غير مرن ، فالإنتاج الزراعي بطبيعته إنتاج غير مرن في المدى القصير وفي معظم الدول الأفريقية النامية هو إنتاج غير كافي لمواجهة الإستهلاك المحلي وبالتالي لن يلعب دوراً كبيراً أو صغيراً في زيادة الصادرات وإعادة التوازن لميزان المدفوعات، كما أن الإنتاج الصناعي إن وجد في الدول الأفريقية فإنه رغم ضألته نسبة إلى الإنتاج القومي فهو من حيث النوعية والتكلفة لا يستطيع المنافسة الدولية والنزول للسوق العالمي بل إنه ما كان لينمو دون حماية جمركية عالية كذلك فإن زيادة الصادرات منه تحتاج إلى واردات من المواد الخام والمعدات والمعرفة التكنولوجية وقطع الغيار وكلها أصبحت بعد خفض العملة الوطنية أكثر كلفة وأكثر ندرة في الحصول على موارد النقد الاجنبي ، أما تجميد الاجور وخفض الإعانات للمستهلكين سيضيف أعباء إضافية على أصحاب الدخل المحدود لنقص دخولهم الحقيقية ولا يخفى ما لذلك من مساوىء اقتصادية تعيق من رفاهيتهم الإجتماعية إضافة إلى المساوىء السياسية نتيجة للإضطرابات التي تعرضت لها دول أخذت بنصائح وإقتراحات صندوق النقد الدولي ، أما بالنسبة لرفع سعر الفائدة والحد من التضخم فالمنجزات الشخصية بسيطة في الدول الأفريقية فضلاً عن الإنكماش الذي يقع عبئاً على المشروعات الوطنية التي لن تواجه إرتفاع تكلفة التمويل لندرته بل ستواجه إرتفاع تكلفة المستورد من رأس المال ومعدات ومواد خام مما قد يؤدي إلى الحد من نشاطها وإلغاء خطط للتوسع في إنتاجها ، مؤدي ذلك أن الإدخار الضروري وإدخار قطاع الأعمال كلاهما يتأثر سلباً وليس بالزيادة كما يعتقد خبراء الصندوق وإن من ينتهز هذه الفرصة هنا هو رأس المال الأجنبي للشركات المتعددة الجنسيات ، فلو كانت البلاد لديها قطاع تعدين للتصدير مثلاً يصبح مشروع إستغلال الموارد التعدينية أكثر ربحاً لإنخفاض العملة الوطنية  كما تنتهز هذه الشركات وغيرها للتوسع في صادراتها داخل البلاد حيث ما تدفعه البلاد نقداً أو عيناً لوارداتها أصبح أكثر من ذي قبل، والمشكلة تزداد عند حصول رأس المال الأجنبي للبلاد والذي لا يدخل إلا بعد توفر شروط أهمها الإستقرار السياسي وتحويل الأرباح للخارج وبالتالي فالأرباح تكون لصالح المستثمر الأجنبي حيث يأخذ هو بالعملة الصعبه أما أبناء البلد فيحصلون على العملة الوطنية فإن لم يحدث تحويل لرأس المال الأجنبي إلى ملكية وطنية فإن مشكلة ميزان المدفوعات تتفاقم أكثر من أن تحل، ويجب أن نشير هنا أن أسباب الفقر في الدول الافريقية النامية ليست متماثلة وأي مشروع جديد لمواجهة مشكلة الفقر في أفريقيا لن يكتب له النجاح ما لم يدرس حالة كل دولة على حدة ثم يتصدى للفقر ضمن مشروع إقليمي جماعي لمواجهة هذه الظاهرة ، فلقد إرتبطت مشاكل عدم الإستقرار في أفريقيا بمشاريع التقشف التي فرضها البنك الدولي على الحكومات المعنية بالمديونية والتي شملت رفع الدعم الحكومي على السلع الغذائية وغيرها.
تطالب اليوم العديد من الدول الأفريقية بإعادة هيكلة الديون وهي مطالب البنك الدولي للتنمية وينبغي أن لا تكون مطلباً للشعوب لأن هذه الهيكلة ستؤدي إلى إستمرار هيمنة المؤسسات المالية الدولية على الإقتصاديات المحلية وسيكون الإستقلال والتنمية في أفريقيا مرهوناً في يد الدول الغربية وستضخ مبالغ طائلة في خزينة الدول الغربية كان من الممكن إستثمارها في قضايا التنمية المحلية .
فشلت جميع النماذج الإقتصادية التي تم تطبيقها في أفريقيا لتحقيق أهدافها ، فالسياسات التنموية التي إنتهجتها النظم السياسية الأفريقية أفسحت المجال أمام سياسات التكيف الهيكلي والكثير من الدول التي طبقت برامج التكيف عانت من الكساد الإقتصادي وتكريس وضعية التخلف وعدم الإستقرار السياسي والصراع الإجتماعي ، وإنتقدت سياسات التكيف الهيكلي في أفريقيا بشكل حاد بسبب أنها إذا كانت تهدف لإقامة نظام إقتصادي يعتمد على السوق الحر وهو ما يتضمن تقليص دور الدولة فإن ذلك لا يتلاءم مع الواقع الأفريقي فعملية الإنتقال نحو الحرية الإقتصادية بمفهومها الرأسمالي يتطلب وجود دولة قوية وجهاز بيروقراطي كفء ونظام مصرفي فعال وهذا لا يتوافر في افريقيا .
على الرغم من إضفاء الطابع الفني والتقني على سياسات التكيف الهيكلي وتصويرها بأنها تخلو من أية مصالح وأهداف أيديلوجية فإنه لا يخفى على أحد أن المؤسسات المالية الدولية تسعى وبجهد دؤوب لتدعيم وتعزيز نظام رأسمالي عالمي حتى لو كان بغير مضمون حقيقي، فسياسات التكيف الهيكلي أضرت إضراراً بالغاً بالتنمية البشرية في افريقيا ولم تأخذ بعين الإعتبار الأبعاد الإجتماعية والإنسانية للتكيف .

تم نشر المقال في جريدة الفجر الإماراتية على الرابط التالي:



أمـــــينة الـــعريــــمي
باحــــــثة إمـــاراتــــية فــي الشــأن الأفريــــــقي
Afrogulfrelations_21@outlook.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق