السبت، 26 ديسمبر 2015


"أفريقيا بين رداء التنمية وقبعة التخلف"


تكمن مشكلة أفريقيا الأساسية في وجود ثلاث أفريقيات وهي في حالة تصادم دائمة ، أولها أفريقيا التقليدية أو المحلية التي عوقبت تاريخياً بوصفها متخلفة وبدائية ومع ذلك فهي تسير ولو على مستوى متدني من الكفاءة وإلا لما تمكنت من الإبقاء على أهلها على مر القرون  وهي اليوم تكافح من أجل البقاء ، وأفريقيا الثانية هي أفريقيا الحديثة الضائعه ، والثالثة هي القطاع غير الرسمي وهو قطاع إنتقالي بين التقليدي والحديث ، ومعظم مشكلات أفريقيا نابعة من قطاعها الحديث فهو يفيض على التقليدي ويحدث تمزقاً وتشريداً ويؤدي بضحايا أبرياء ومعظم الغربيين بعامة يجدون صعوبة في التعامل مع هاتين الأفريقيتين وفي المصالحة بينهما،

فعملية التحول الديموقراطي في افريقيا في أوائل التسعينات حدثت نتيجة لفقدان الدولة سلطتها أي تقلص سطوتها أو تهاوي قدراتها نتيجة لنقص الموارد وظهر مناخ سياسي دولي جديد خفض المساعدات من المؤسسات المالية الدولية والحكومات الاجنبية وإحياء المجتمع المدني ( الكنائس والنقابات المهنية والاتحادات العرقية والكيانات المهنية ) الذي بدأ يلعب دوراً مزدوجاً، وتسارعت هذه التطورات نتيجة لموجة من التحول الديموقراطي على المستوى العالمي كما في شرق اوروبا منذ عام 1989 كما كانت هناك عوامل خارجية لا تقل اهمية عن العوامل الداخلية بالنسبة لعملية التحول الديموقراطي أولها ظهور رؤية أكثر تحفظاً عن علاقات الشمال بالجنوب في الدول الغربية ، والمساعدات الموجهه لافريقيا واكبها تراجع في الاولوية ودعم لدولة الحزب الواحد ، وثانيها انتشار فرض خطط سياسات التكيف الهيكلي ، وثالثها انهيار الشيوعية وانتهاء الحرب الباردة .

على الرغم من الاعلانات الدولية والهيئات المتخصصة والمؤتمرات الخاصة بالتنمية التي تم إنجازها للحد من التخلف في أفريقيا إلا أن التخلف لا يزال وسيظل موجوداً في افريقيا طالما تم الاعتماد على ما تقدمه  الدول الرأسمالية من سياسات ونماذج وقيم وبرامج ، فالرأسمالية العالمية من مصلحتها أن تستمر حالة التخلف في القارة الافريقية فالسوق الذي نشأ على أساس الرق والإستعمار من الصعب أن يسمح بتحقيق التنمية في أفريقيا كما أن عنصرية هذا النظام ستمنعه من ذلك والهيئات الدولية مثل ( صندوق النقد الدولي والبنك الدولي) تعمل لخدمة مصالح دول معينة ، وسياسات التكيف الهيكلي وشروط نادي باريس التي يتم فرضها على الدول الافريقية لإجبار حكوماتها على رفع الدعم عن السلع الاساسيه ما هي إلا إستعماراً إقتصادياً جديداً للقارة الافريقية ولن تحقق تنمية بل ستؤدي إلى خلق اقتصادات تُكيف إنتاجها وسماتها مع السوق الرأسمالي العالمي ولن تستطيع خدمة مصالح المواطنين الافارقة، فالرأسمالية العالمية حافظت على الكثير من سمات المرحلة الاستعمارية ، فأفريقيا ( جنوب الصحراء) لم تخرج من سمات وخصائص المرحلة الاستعمارية وإن ما حدث هو إستبدال للفئة الحاكمة الاستعمارية بفئة تنتمي إثنياً للقارة ولكنها تخدم مصالح غربية ومن هنا يمكن القول أن افريقيا (جنوب الصحراء) ما زالت قيد نمط جديد من الإستعمار هو الاستعمار الجديد ، وأقصد بالإستعمار الجديد هو الإستقلال الشكلي للدول الافريقية في حين تظل القوى المتحكمة والمؤثرة في الحياة السياسية والاقتصادية من خارج القارة وتظل السلطة في يد فئة نشأت وتشبعت بالقيم الرأسمالية وتغييب أوجه التعبير عن الرأي والمشاركة السياسية وتأجيج الإثنيات والتلاعب بأوجه الإنقسام بين جماعات المجتمع ومؤسسية الفساد والحط من قيمة الثقافة الوطنية كأداة في يد الطبقة الحاكمة وتشويه للمفاهيم الثورية في المجتمع ، ونشير إلى أن جوهر الاستعمار الجديد هو فقدان الشعوب الافريقية للقدرة على الاختيار بطريقة مستقلة وفقدان الدول الثقة في قدرتها على القيام بدور مؤثر في الشؤون الدولية، ومن المؤكد أن السياسه الدولية دفعت بسياسات أهملت الظروف الاجتماعية للمواطن الأفريقي وقضت تدريجياً على قدرة دول افريقيا ( جنوب الصحراء ) على توفير الحد الأدني من الدعم الاجتماعي للفقراء وتلك الظروف أوجدت فئة من مقاولو النزاعات الدولية والمحلية نجحوا في إستغلال شبكات التجارة العالمية المرنه لإنتاج عوائد عالمية من الإستغلال المحلي.

تاريخياً كانت افريقيا قبل الاتصال بأوروبا خليطاً من جماعات وممالك أخذه في التطور والنمو وكانت هناك حركة للتاريخ ولم يكن التخلف الي ألم بها من الظروف الطبيعية أو من النماذج التاريخية والثقافية او من الديناميات الداخلية الثرية ولكن كان للاتصال الاوروبي أثره في إنقطاع حركة التطور الاجتماعي وعدم النضج الطبقي الذي هو أساس حركة التطور في أي مجتمع ، فالتكوينات الطبقية هي أساس القدرة على بناء هياكل سياسية متطورة وعادة ما تكون طبيعة النشاط الاقتصادي هي المسؤولة عن ذلك النضج الطبقي ومع تأثير الإتصال الأوروبي السلبي على هذه الأبعاد نشأت حالة التخلف التي نراها في عموم القارة الافريقية (جنوب الصحراء) الى اليوم ، ومن الجدير بالذكر أن درجة التطور والتنمية التي كانت في أفريقيا قبل الاستعمار لم تستخدم في بلورة الهياكل السياسية والاقتصادية لفائدة أبناء افريقيا وحسب بل كان لها تأثيرها في تنمية الرأسمالية في المجتمعات الغربية وبذات القدر الذي أسهمت به افريقيا في تطور وتنمية الغرب كان للأخير دوره في تخلف القارة الافريقية ، فعلى سبيل المثال كانت نتيجة سيطرة اوروبا على التجارة الدولية وأدواتها أدت إلى خلق دول مركزية ودول هامشية وكانت أول خطوات الاروبيين هي جعل الافارقة لا يستطيعون التخلي عن السلع الاوروبية والتي كان يتم استبدالها بأكثر المعادن ثمناً ، وبعد أن تم إكتشاف العالم الجديد ومزارع قصب السكر بدأت الحاجة للأيدي العاملة وبدأت تجارة الرقيق بما كان لها من أثار تدميرية على القارة الافريقية ( تدمير الهياكل الاجتماعية والاقتصادية للقارة الافريقية )  في حين كان لها أثار إيجابية على العالم الغربي ، ونجح الغرب في إيجاد الإنقسامات التي تضمن له استمرارية تجارة الرق بل ونشأ الرق الداخلي لصالح الفئة التي كانت تخدم مصالح الرأسمالية وبخاصة في غرب أفريقيا التي تعد من أكثر المناطق تأثراً بهذه التجارة ، حاول الغرب إبتكار الوسائل والسياسات التي يحافظ من خلالها على القارة الافريقية في موقع التابع بشكل يخدم مصالحه ومنافعه كما حاول أن يجعل من الإستقلال الذي حصلت عليه الدول الافريقية ( جنوب الصحراء) إستقلالاً شكلياً وهذا هو هدف ممارسات الاستعمار الجديد وهذا النوع من الاستعمار يحتاج إلى بذل الكثير من الجهود تفوق جهود مواجهة الشكل التقليدي من الاستعمار.

من المثير للسخرية بقدر ما إنه دليل على مستوى التبعية الذي أحكمت أوروبا حلقاته على عموم أفريقيا (جنوب الصحراء)، هو إلزام فرنسا مستعمراتها السابقه بتوقيع إتفاقية تسمى ( إستمرارية الإستعمار) منذ خمسينات القرن الماضي إلى اليوم ، فالدول الافريقية مُلزمة بدفع ضريبه تسمى ( فوائد الإستعمار الفرنسي ) مقابل البقاء على البنية التحتية التي بنتها فرنسا قبل إستقلال تلك الدول ، كما تحتفظ باريس بالإحتياطات النقدية الوطنية للدول الافريقية في البنك الفرنسي الوطني، علماً بأن السياسة النقدية في تلك الدول تُدار من وزارة الخزانة الفرنسية دون الرجوع للسلطات المالية المركزية في الإتحاد الإقتصادي والنقدي لدول غرب إفريقيا (WAEMU) أو المجموعة الاقتصادية لدول وسط إفريقيا (CEMAK)، أضف إلى ذلك أن أكثر من 80% من الإحتياطات الأجنبية من هذه البلدان الأفريقية تودع في حساب العمليات الخاضع لسيطرة وزارة الخزانة الفرنسية، ومن الجدير بالذكر أن بنوك الإتحاد المالي الأفريقي تعتبر أفريقية بالإسم فقط حيث لا توجد سياسات نقدية خاصة بهم، فأغلب تلك الدول لا تعلم شيئاً عن حجم الإحتياطات الأجنبية التي يملكونها وتحتفظ بها الخزانة الفرنسية، أضف إلى ذلك أن الحكومة الفرنسية لا تسمح للدول الافريقية بالوصول إلى أموالها إلا بنسبة 15% فقط من مجموع الأموال السنوية المحولة إلى باريس،وإذا إحتاجت هذه البلدان لمبالغ إضافية فعليهم إقتراضها من الـــ( 65% ) من أموالهم الخاصة في الخزانة الفرنسية وبأسعار تجارية.

·       يمكن للأفارقة التخلص من عبث الإستعمار الجديد وذلك بالاستفادة من الدروس التاريخية والاستفادة من التاريخ تتم على جانبين ، جانب نفسي ويكمن في تخلص الافارقة من حالة الدونية والقيم والمعتقدات الخاطئة التي حاول الاستعمار أن يغرسها في العقلية الافريقية ، وجانب أخر هو إدراك الافارقة للتاريخ الافريقي بإعتباره مصدراً لنماذج تنموية لها صبغة افريقية خالصة ، وتحرير المثقفين  والمفكرين الافارقة من عقيدة الرأسمالية وإن ما تقدمه هو الأفضل.

·       لابد أن يدرك الأفارقة أن تحقيق التنمية في بلدانهم لن يتحقق دون قطيعه جذرية مع الرأسمالية العالمية التي هي سبب في تخلف القارة تاريخياً ، ولا يمكن أن تتحقق التنمية في ظل تلك الايدولوجيا  التي تمثل المظلة الاساسية  للإستعمار والعنصرية تاريخياً

·       على الدول الأفريقية (جنوب الصحراء)  السعي لإيجاد الوحدة المؤسسية والسياسية وتعميق أوجه التنسيق فيما بين وحداتها وفي أسلوب تعاملاتها مع الغرب والسعي لتغيير إدراكها للسمات التي كانت السبب في قهرها وإستعمارها لتصبح هي سبب قوتها ووحدتها .

أكاد أجزم أن القادة الأفارقة في دول أفريقيا ( جنوب الصحراء) يرغبون بتنمية بلدانهم وشعوبهم ولكنهم يخشون تكرار التجربة (السيكوتوريه) نسبة إلى الزعيم الأفريقي الغيني ( أحمد سيكوتوري) عندما أعلن رفضه للوجود الفرنسي وتحكمه وإستغلاله لثروات بلاده مما دفع باريس إلى تدمير المدارس والطرق والمستشفيات  والمباني الإدارية العامة و المؤسسات البحثية في العاصمة الغينية ( كوناكري ) وما حولها بإعتبار إن تلك فوائد ناتجه عن الإستعمار الفرنسي، وما فعلته فرنسا في غينيا قبل خروجها كانت رسالة تاريخية مباشره لعموم القادة الافارقة بأن لا يكرروا تجربة ( سيكوتوري) الذي كان شعاره

(نحن نُفضل أن نعيش بحريتنا كفقراء على أن نعيش عبيداً بترف) .

تم نشر المقال في جريدة الراكوبة السودانية على الرابط التالي :

تم نشر المقال في جريدة الحصاد على الرابط التالي :

تم نشر المقال على صحيفة (sudan.net) على الرابط التالي :


أمــــــينة الـــــعريمي
باحــــثة إمـــاراتية في الشأن الأفريقي
afrogulfrelations_21@outlook.com



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق